سورة التوبة - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


هذه الآية تقوي مذهب من رأى أن هذه والتي قبلها إنما مقصودها الحض على الهجرة، وفي ضمن قوله: {فتربصوا} وعيد بين، وقوله {بأمره} قاله الحسن الإشارة إلى عذاب أو عقوبة من الله، وقال مجاهد: الإشارة إلى فتح مكة، والمعنى فإذا جاء الله بأمره فلم تسلبوا ما يكون لكم أجراً ومكانة في الإسلام.
قال القاضي أبو محمد: وذكر الأبناء في الآية لما جلبت ذكرهم المحبة، والأبناء صدر في المحبة وليسوا كذلك في أن تتبع آراؤهم كما في الآية المتقدمة، وقرأ جهور الناس {وعشيرتكم}، وقرأ عاصم وحده بخلاف عنه وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن وعصمة {وعشيراتكم}، وحسن هذا الجمع إذ لكل أحد عشيرة تختص به، ويحسن الإفراد أن أبا الحسن الأخفش قال إنما تجمع العرب عشائر ولا تكاد تقول عشيرات، و{اقترفتموها} معناه اكتسبتموها، وأصل الاقتراف والمقارفة مقاربة الشيء، {وتجارة تخشون كسادها} بيّن في أنواع المال، وقال ابن المبارك: الإشارة إلى البنات اللواتي لا يتزوجن لا يوجد لهن خاطب {ومساكن} جمع مسكن بفتح الكاف مفعل من السكنى، وما كان من هذا معتل الفاء فإنما يأتي على مفعل بكسر العين كموعد وموطن، والمساكن القصور والدور، و{أحب} خبر كان، وكان الحجاج بن يوسف يقرؤها {أحبُّ} بالرفع وله في ذلك خبر مع يحيى بن يعمر سأله الحجاج هل تسمعني الجن قال نعم في هذا الحرف، وذكر له رفع أحب فنفاه.
قال القاضي أبو محمد: وذلك خارج في العربية على أن يضمر في كان الأمر والشأن ولم يقرأ بذلك، وقوله {والله لا يهدي القوم الفاسقين} عموم لفظ يراد به الخصوص فيمن يوافي على فسقه، أو عموم مطلق على أنه لا هداية من حيث الفسق.


هذه مخاطبة لجميع المؤمنين يعد الله نعمه عليهم، و{مواطن} جمع موطِن بكسر الطاء، والموطِن موضع الإقامة أو الحلول لأنه أول الإقامة، والمواطن المشار إليها بدر والخندق والنضير وقريظة، ولم يصرف {مواطن} لأنه جمع ونهاية جمع، {ويوم} عطف على موضع قوله {في مواطن} أو على لفظة بتقدير وفي يوم، فانحذف حرف الخفض، و{حنين} واد بين مكة والطائف قريب من ذي المجاز وصرف حين أريد به الموضع والمكان، ولو أريد به البقعة لم يصرف كما قال الشاعر [حسان رضي الله عنه]: [الكامل]
نصروا نبيَّهم وشدُّوا أزْرَه *** بحنينَ يومَ تَوَاكلِ الأبطالِ
وقوله {إذ أعجبتكم كثرتكم} روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال حين رأى حملته اثني عشر ألفاً قال: «لن نغلب اليوم من قلة»، روي أن رجلاً من أصحابه قالها فأراد الله إظهار فأراد الله إظهار العجز فظهر حين فر الناس، ثم عطف القدر بنصره، وقوله {وضاقت عليكم الأرض بما رحبت} أي بقدر ما هي رحبة واسعة لشدة الحال وصعوبتها، ف ما مصدرية، وقوله {ثم وليتم مدبرين} يريد فرار الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد: واختصار هذه القصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما فتح مكة وكان في عشرة آلاف من أصحابه وانضاف إليه ألفان من الطلقاء فصار في اثني عشر ألفاً سمع بذلك كفار العرب فشق عليهم فجمعت له هوازن وألفافها وعليهم مالك بن عوف النصري وثقيف وعليهم عبد ياليل بن عمرو وانضاف إليهم أخلاط من الناس حتى كانوا ثلاثين ألفاً فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اجتمعوا بحنين، فلما تصافَّ الناس حمل المشركون من مجاني الوادي، فانهزم المسلمون، قال قتادة: ويقال إن الطلقاء من أهل مكة فروا وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة شهباء، وقال أبو عبد الرحمن الفهري: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم، يومئذ وكان على فرس قد اكتنفه العباس عمه وابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وبين يديه أيمن بن أم أيمن، وثم قتل رحمه الله، فلما رأى رسول الله عليه وسلم شدة الحال نزل عن بغلته إلى الأرض، قاله البراء بن عازب، واستنصر الله عز وجل فأخذ قبضة من تراب وحصى فرمى بها وجوه الكفار، وقال: شاهت الوجوه، وقال عبد الرحمن: تطاول من فرسه فأخذ قبضة التراب ونزلت الملائكة لنصره ونادى رسول الله صلى الله عليه وسلم يا للأنصار، وأمر رسول الله عليه وسلم العباس أن ينادي أين أصحاب الشجرة أين أصحاب سورة البقرة، فرجع الناس عنقاً واحداً وانهزم المشركون، قال يعلى بن عطاء: فحدثني أبناؤهم قالوا لم بيق منا أحد إلا دخل في عينيه من ذلك التراب، واستيعاب هذه القصة في كتاب السير.
وظاهر كلام النحاس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في أربعة عشر ألفاً، وهذا غلط، و{مدبرين} نصب على الحال المؤكدة كقوله: {وهو الحق مصدقاً} [البقرة: 91] والمؤكدة هي التي يدل ما قبلها عليها كدلالة التولي على الادبار، وقوله تعالى: {ثم أنزل الله سكينته} الآية، {ثم} هاهنا على بابها من الترتيب، والسكينة النصر الذي سكنت إليه ومعه النفوس والحال، والإشارة بالمؤمنين إلى الأنصار على ما روي، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى في ذلك اليوم يا معشر الأنصار، فانصرفوا وهو ردوا الهزيمة، والجنود الملائكة، والرعب قال أبو حاجز يزيد بن عامر كان في أجوافنا مثل ضربة الحجر في الطست من الرعب، وعذاب الذين كفروا هو القتل الذي استحرَّ فيهم والأسر الذي تمكن في ذراريهم، وكان مالك بن عوف النصري قد أخرج الناس بالعيال والذراري ليقاتلوا عليها، فخطأه في ذلك دريد بن الصمة، وقال لمالك بن عوف راعي ضأن وهل يرد المنهزم شي؟ وفي ذلك اليوم قتل دريد بن الصمة القتلة المشهورة، قتله ربيعة بن رفيع بن أهبان السلمي، ويقال ابن الدغنة وقوله {ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء} إعلام بأن من أسلم وتاب من الكفار الذين نجوا ذلك اليوم فإنهم مقبولون مسلمون موعودون بالغفران والرحمة.


قال قتادة ومعمر بن راشد وغيرهما: صفة المشرك بالنجس إنما كانت لأنه جنب إذ غسله من الجنابة ليس بغسل، وقال ابن عباس وغيره: بل معنى الشرك هو الذي كنجاسة الخمر، قال الحسن البصري: من صافح مشركاً فليتوضأ.
قال القاضي أبو محمد: فمن قال بسبب الجنابة أوجب الغسل على من يسلم من المشركين، ومن قال بالقول الآخر لم يوجب الغسل، والمذهب كله على القول بإيجاب الغسل إلا ابن عبد الحكم فإنه قال: ليس بواجب، وقرا أبو حيوة {نِجْس} بكسر النون وسكون الجيم، ونص الله تعالى في هذه الآية على المشركين وعلى المسجد الحرام، فقاس مالك رحمه الله غيره جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم على المشركين، وقاس سائر المساجد على المسجد الحرام، ومنع من دخول الجميع في جميع المساجد وكذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله ونزع في كتابه بهذه الآية، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع} [النور: 36]، وقال الشافعي هي عامة في الكفار خاصة في المسجد الحرام، فأباح دخول اليهود والنصارى والوثنيين في سائر المساجد، ومن حجته حديث ربط ثمامة بن أثال، وقال أبو حنيفة هي خاصة في عبدة الأوثان وفي المسجد الحرام، فأباح دخول اليهود والنصارى في المسجد الحرام وغيره، ودخول عبدة الأوثان في سائر المساجد، وقال عطاء: وصف المسجد بالحرام ومنع القرب يقتضي منعهم من جميع الحرم.
قال القاضي أبو محمد: وقوة قوله {فلا يقربوا} يقتضي أمر المسلمين بمنعهم، وقال جابر بن عبد الله وقتادة: لا يقرب المسجد الحرام مشرك إلا أن يكون صاحب جزية أو عبداً لمسلم، وعبدة الأوثان مشركون بإجماع، واختلف في أهل الكتاب، فمذهب عبد الله بن عمر وغيره أنهم مشركون، وقال جمهور أهل العلم ليسوا بمشركين، وفائدة هذا الخلاف تتبين في فقه مناكحهم وذبائحهم وغير ذلك، وقوله {بعد عامهم هذا} يريد بعد عام تسع من الهجر وهو عام حج أبو بكر بالناس وأذن علي بسورة براءة، وأما قوله {وإن خفتم عيلة} قال عمرو بن فائد: المعنى وإذ خفتم.
قال القاضي أبو محمد: وهذه عجمة والمعنى بارع بإن، وكان المسلمون لما منع المشركون من الموسم وهم كانوا يجلبون الأطعمة والتجارات قذف الشيطان في نفوسهم الخوف من الفقر وقالوا من أين نعيش؟ فوعدهم الله بأن يغنيهم من فضله، قال الضحاك: ففتح عليهم باب أخذ الجزية من أهل الذمة، بقوله {قاتلوا الذين لا يؤمنون} [التوبة: 29] إلى قوله {وهم صاغرون} [التوبة: 29]، وقال عكرمة: أغناهم بإدرار المطر عليهم.
قال القاضي أبو محمد: وأسلمت العرب فتمادى حجهم وتجرهم وأغنى الله من فضله بالجهاد والظهور على الأمم، والعيلة الفقر، يقال: عال الرجل يعيل عيلة إذا افتقر، قال الشاعر: [أحيحة]
وما يدري الفقير متى غناه *** وما يدري الغني متى يعيل
وقرأ علقمة وغيره من أصحاب ابن مسعود، عايلة وهو مصدر كالقايلة من قال يقيل، وكالعاقبة والعافية، ويحتمل أن تكون نعتاً لمحذوف تقديره حالاً عائلة، وحكى الطبري أنه يقال عال يعول إذا افتقر.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8